الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى
.بَابُ الْقَذْفِ: (الْقَذْفُ وَهُوَ) لُغَةً الرَّمْيُ بِقُوَّةٍ ثُمَّ غَلَبَ عَلَى (الرَّمْيِ بِزِنًا أَوْ لِوَاطٍ أَوْ شَهَادَةٍ بِأَحَدِهِمَا)، أَيْ: الزِّنَا وَاللِّوَاطِ (وَلَمْ تَكْمُلْ الْبَيِّنَةُ) بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهُوَ مُحَرَّمٌ إجْمَاعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قَالُوا وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاَللَّهِ وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (فَمَنْ) (قَذَفَ وَهُوَ)؛ أَيْ: الْقَاذِفُ (مُكَلَّفٌ مُخْتَارٌ وَلَوْ أَخْرَسَ) وَقَذَفَ (بِإِشَارَةٍ) مَفْهُومَةٍ لَا بِكِتَابَةٍ وَلَوْ فِي غَيْرِ دَارِ الْإِسْلَامِ (مُحْصَنًا وَلَوْ مَجْبُوبًا)؛ أَيْ مَقْطُوعَ الذَّكَرِ (أَوْ) كَانَتْ مَقْذُوفَةً (ذَاتَ مَحْرَمٍ) مِنْ قَاذِفٍ (أَوْ) كَانَتْ مَقْذُوفَةً (رَتْقَاءَ) (حُدَّ) لِعُمُومِ الْآيَةِ وَالْأَخْبَارِ (ثَمَانِينَ) جَلْدَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}.(وَ) حَدُّ قَاذِفُ (قِنٍّ وَلَوْ عَتَقَ عَقِبَ قَذْفٍ) اعْتِبَارًا بِوَقْتِ الْوُجُوبِ كَالْقِصَاصِ (أَرْبَعِينَ) جَلْدَةً (وَ) حَدُّ قَاذِفِ (مُبَعَّضٍ بِحِسَابِهِ) فَمَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ وَنِصْفُهُ رَقِيقٌ يُجْلَدُ سِتِّينَ، لِأَنَّهُ حَدٌّ يَتَبَعَّضُ؛ فَكَانَ عَلَى الْقِنِّ فِيهِ نِصْفُ مَا عَلَى الْحُرِّ وَالْمُبَعَّضُ بِالْحِسَابِ كَحَدِّ الزِّنَا، وَهُوَ يَخُصُّ عُمُومَ الْآيَةِ. (وَيَجِبُ) حَدُّ قَذْفٍ (بِقَذْفٍ) نَحْوُ (قَرِيبٍ) كَأُخْتٍ وَلَوْ (عَلَى وَجْهِ الْغَيْرَةِ) بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ (كَقَوْلِهِ لِأُخْتِهِ) وَنَحْوِهَا (يَا زَانِيَةُ زَجْرًا لَهَا) كَأَجْنَبِيٍّ، لِعُمُومِ الْآيَةِ.وَ(لَا) يَجِبُ حَدُّ قَذْفٍ (عَلَى أَبَوَيْنِ وَإِنْ عَلَوَا بِقَذْفِ وَلَدِهِمَا) وَإِنْ سَفَلَ مِنْ وَلَدِ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، كَمَا لَا يَجِبُ قَوَدٌ لِوَلَدٍ وَإِنْ سَفَلَ عَلَى أَبَوَيْهِ (وَإِنْ عَلَوَا فَلَا يَرِثُهُ)؛ أَيْ حَدَّ قَذْفِ وَلَدٍ وَإِنْ سَفَلَ (عَلَيْهِمَا)؛ أَيْ: عَلَى أَبَوَيْهِ وَإِنْ عَلَوَا (وَإِنْ وَرِثَهُ)؛ أَيْ: الْحَدَّ (أَخُوهُ)؛ أَيْ: أَخُو الْوَلَدِ (لِأُمِّهِ) كَأَنْ قَذَفَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ، وَطَالَبَتْهُ بِحَدِّ الْقَذْفِ، ثُمَّ مَاتَتْ عَنْ وَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا مِنْ الْقَاذِفِ، فَلَا يَرِثُ الْحَدَّ عَلَى أَبِيهِ (وَحَدُّ الْقَاذِفِ لَهُ)، أَيْ: لِلْقَذْفِ بِطَلَبِ الْوَلَدِ الْآخَرِ (لِتَبَعُّضِهِ)؛ أَيْ: مَلَكَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ الطَّلَبَ بِهِ كَامِلًا مَعَ تَرْكِ بَاقِيهِمْ إذَا طَالَبَ بِهِ مُوَرِّثُهُمْ قَبْلَ مَوْتِهِ، لِلُحُوقِ الْعَارِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَرَثَةِ عَلَى انْفِرَادِهِ. (وَالْحَقُّ فِي حَدِّهِ) أَيْ الْقَذْفِ (لِلْآدَمِيِّ) كَالْقَوَدِ (فَلَا يُقَامُ) حَدُّ قَذْفٍ (بِلَا طَلَبٍ)؛ أَيْ: الْمَقْذُوفِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْرِضَ لَهُ إلَّا بِطَلَبِهِ. ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ إجْمَاعًا (لَكِنْ لَا يَسْتَوْفِيهِ) مَقْذُوفٌ (بِنَفْسِهِ، فَلَوْ فَعَلَ) بِأَنْ اسْتَوْفَاهُ بِنَفْسِهِ (لَمْ يَسْقُطْ) لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ نِيَّةَ الْإِمَامِ أَنَّهُ حَدٌّ. (وَيَسْقُطُ) حَدُّ قَذْفٍ (بِعَفْوِهِ)؛ أَيْ: الْمَقْذُوفِ (وَلَوْ عَفَا بَعْدَ طَلَبِهِ) بِهِ، كَمَا لَوْ عَفَا قَبْلَهُ، وَكَذَا يَسْقُطُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بِمَا قَذَفَهُ بِهِ، وَبِتَصْدِيقِ مَقْذُوفٍ لَهُ فِيهِ، وَبِلِعَانِهِ إنْ كَانَ زَوْجًا، وَلَا يَسْقُطُ حَدُّ قَذْفٍ بِعَفْوٍ (عَنْ بَعْضِهِ، قَالَهُ الْقَاضِي) كَمَا لَوْ كَانَ الْمَقْذُوفُ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ؛ فَإِنَّ عَلَيْهِ لِجَمِيعِهِمْ حَدًّا وَاحِدًا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَقٌّ فِي مُطَالَبَتِهِ، فَلَوْ كَانُوا خَمْسَةً مَثَلًا، وَعَفَا أَحَدُهُمْ عَنْ حَقِّهِ، لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الْأَرْبَعَةِ الْبَاقِينَ، فَلَوْ طَلَبَ أَحَدُهُمْ حَقَّهُ، فَلَمَّا جَلَدَ عِشْرِينَ قَالَ: عَفَوْتُ عَنْ بَاقِي الْحَدِّ؛ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الثَّلَاثَةِ الْبَاقِينَ مِنْ تَتِمَّتِهِ الْحَدَّ، فَلَوْ طَلَبَهَا أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الْبَاقِينَ فَلَمَّا جَلَدَ عِشْرِينَ أُخْرَى قَالَ عَفَوْتُ عَنْ بَاقِي الْحَدِّ؛ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الِاثْنَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ مِنْ تَتِمَّتِهِ [فَلَوْ طَلَبَهَا] أَحَدُهُمَا فَلَمَّا جَلَدَ عِشْرِينَ قَالَ عَفَوْتُ عَنْ تَتِمَّتِهِ؛ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الْوَاحِدِ الْبَاقِي؛ فَلَهُ طَلَبُ جَلْدِ الْعِشْرِينَ الْبَاقِيَةِ مِنْ الثَّمَانِينَ. (وَإِنْ عَفَا بَعْضُهُمْ)؛ أَيْ الْمَقْذُوفِينَ عَنْ الْقَاذِفِ، وَلَمْ يَعْفُ بَاقِيهِمْ (فَلِمَنْ لَمْ يَعْفُ إقَامَتُهُ)؛ أَيْ: الْحَدَّ (كَامِلًا) فَلَا يَسْقُطُ بِالْمُصَالَحَةِ عَلَيْهِ وَلَا عَنْ بَعْضِهِ بِمَالٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ عَفْوِ بَعْضِ مُسْتَحِقِّي الْقَوَدِ عَنْ حَقِّهِ؛ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ بِذَلِكَ حَقُّ بَاقِيهِمْ؛ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهِ، فَلَا حَقَّ لِلْعَافِي فَلَمْ يَتَبَعَّضْ، بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّهُ لَيْسَ كَقَوَدٍ فَيَسْقُطُ، وَلَا يُسْتَوْفَى نَاقِصًا كَبَاقِي الْحُدُودِ. (وَمَنْ قَذَفَ غَيْرَ مُحْصَنٍ [وَلَوْ قِنَّهُ])؛ أَيْ: قِنَّ قَاذِفٍ (أَوْ) قَذَفَ (مَنْ أَقَرَّ بِزِنًا وَلَوْ دُونَ أَرْبَعِ) مَرَّاتٍ (عُزِّرَ) رَدْعًا لَهُ عَنْ أَعْرَاضِ الْمَعْصُومِينَ، وَكَفًّا عَنْ إيذَائِهِمْ (وَالْمُحْصَنُ هُنَا)؛ أَيْ: فِي بَابِ الْقَذْفِ (الْحُرُّ الْمُسْلِمُ الْعَاقِلُ) [الَّذِي يَطَأُ]: مِثْلُهُ كَابْنِ عَشْرٍ (أَوْ يُوطَأُ مِثْلُهَا) كَبِنْتِ تِسْعٍ؛ لِلُحُوقِ الْعَارِ لَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا بَالِغَيْنِ؛ إذْ الْبُلُوغُ لَيْسَ شَرْطًا لِلْوَطْءِ (الْعَفِيفِ عَنْ الزِّنَا ظَاهِرًا) أَيْ: فِي ظَاهِرِ حَالِهِ (وَلَوْ) كَانَ (تَائِبًا مِنْهُ)؛ أَيْ: الزِّنَا؛ لِأَنَّ التَّائِبَ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ. (وَمُلَاعَنَةٌ وَوَلَدُهَا وَوَلَدُ زِنًا [كَغَيْرِهِمْ] نَصًّا) فَيُحَدّ بِقَذْفِ كُلٍّ مِنْهُمْ إنْ كَانَ مُحْصَنًا. (وَلَا يُحَدُّ قَاذِفٌ غَيْرُ بَالِغٍ حَتَّى يَبْلُغَ) وَيُطَالَبُ بِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ؛ إذْ لَا أَثَرَ لِطَلَبِهِ قَبْلَ بُلُوغِهِ لِعَدَمِ اعْتِبَارِ كَلَامِهِ، وَلَا طَلَبَ لِوَلِيِّهِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ التَّشَفِّي؛ فَلَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فِيهِ كَالْقَوَدِ (وَكَذَا لَوْ جُنَّ) مَقْذُوفٌ (أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ قَبْلَ طَلَبِهِ) فَلَا يَسْتَوْفِي حَتَّى يُفِيقَ وَيُطَالِبَ بِهِ، (وَ) إنْ جُنَّ مَقْذُوفٌ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ (بَعْدَهُ)؛ أَيْ: بَعْدَ الطَّلَبِ بِهِ (يُقَامُ)، أَيْ: يُقِيمُهُ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ عَلَى الْقَاذِفِ؛ لِوُجُودِ شَرْطِهِ وَانْتِفَاءِ مَانِعِهِ. (وَمَنْ قَذَفَ) مُحْصَنًا (غَائِبًا لَمْ يُحَدَّ) قَاذِفُهُ (حَتَّى يَثْبُتَ طَلَبُهُ)؛ أَيْ: الْمَقْذُوفِ الْغَائِبِ (فِي غَيْبَتِهِ) بِشَرْطِهِ (أَوْ يَحْضُرَ وَيَطْلُبَ) بِنَفْسِهِ. (وَمَنْ قَالَ لِمُحْصَنَةٍ زَنَيْت وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ، فَإِنْ فَسَّرَهُ بِدُونِ تِسْعِ سِنِينَ عُزِّرَ) أَوْ قَالَهُ؛ أَيْ: زَنَيْت وَأَنْتَ صَغِيرٌ لِمُحْصَنٍ (ذَكَرَ، وَفَسَّرَهُ بِدُونِ عَشْرِ) سِنِينَ؛ عُزِّرَ لِمَا تَقَدَّمَ (وَإِلَّا) يُفَسِّرْهُ بِدُونِ ذَلِكَ (حُدَّ) لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ بُلُوغُ مَقْذُوفٍ. (وَإِنْ قَالَ) لِمُحْصَنَةٍ زَنَيْت (وَأَنْتِ كَافِرَةٌ، أَوْ) وَأَنْتِ (أَمَةٌ، أَوْ) وَأَنْتِ (مَجْنُونَةٌ، وَلَمْ يُثْبِتْ كَوْنَهَا كَذَلِكَ)؛ أَيْ: كَافِرَةً أَوْ أَمَةً أَوْ مَجْنُونَةً (حُدَّ) لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ ذَلِكَ (كَمَا لَوْ قَذَفَ مَجْهُولَةَ النَّسَبِ، وَادَّعَى رِقَّهَا فَأَنْكَرَتْ) فَيُحَدُّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْحُرِّيَّةُ (وَإِنْ ثَبَتَ كَوْنُهَا كَذَلِكَ)؛ أَيْ: كَانَتْ كَافِرَةً أَوْ مَجْنُونَةً أَوْ أَمَةً (لَمْ يُحَدَّ) لِإِضَافَةِ الزِّنَا إلَى حَالٍ لَمْ تَكُنْ فِيهَا مُحْصَنَةً. (وَلَوْ قَالَتْ أَرَدْتُ قَذْفِي حَالًا)؛ أَيْ فِي الْحَالِ (وَأَنْكَرَهَا) لَمْ يُحَدَّ؛ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي نِيَّتِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهَا، وَقَوْلُهُ وَأَنْتِ كَافِرَةٌ وَنَحْوُهُ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، (وَيُصَدَّقُ قَاذِفٌ) مُحْصَنٌ (ادَّعَى أَنْ [قَذْفَهُ) كَانَ] (حَالَ صِغَرِ مَقْذُوفٍ) لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي صِغَرِهِ الْبَرَاءَةُ مِنْ الْحَدِّ (فَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ وَكَانَتَا مُطْلَقَتَيْنِ) بِأَنْ قَالَتْ إحْدَاهُمَا قَذَفَهُ وَهُوَ صَغِيرٌ وَالْأُخْرَى وَهُوَ [كَبِيرٌ (أَوْ) كَانَتَا (مُؤَرِّخَتَيْنِ تَارِيخَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ) بِأَنْ قَالَتْ إحْدَاهُمَا قَذَفَهُ: وَهُوَ صَغِيرٌ سَنَةَ عِشْرِينَ، وَالْأُخْرَى وَهُوَ كَبِيرٌ سَنَةَ ثَلَاثِينَ، مَثَلًا (فَهُمَا قَذْفَانِ مُوجَبُ) بِفَتْحِ الْجِيمِ (أَحَدِهِمَا الْحَدُّ) وَهُوَ] الْقَذْفُ فِي الْكِبَرِ (وَ) مُوجَبُ (الْآخَرِ) وَهُوَ الْقَذْفُ زَمَنَ الصِّغَرِ (التَّعْزِيرُ) إعْمَالًا لِلْبَيِّنَتَيْنِ؛ لِعَدَمِ التَّنَافِي وَإِنْ أَرَّخَتَا تَارِيخًا وَاحِدًا (وَقَالَتْ: إحْدَاهُمَا وَهُوَ)؛ أَيْ: الْمَقْذُوفُ حَالَ قَذْفِهِ (صَغِيرٌ وَ) قَالَتْ (الْأُخْرَى وَهُوَ) إذْ (ذَاكَ كَبِيرٌ؛ فَعَارَضَتَا، وَسَقَطَتَا) لِأَنَّهُ لَا مُرَجِّحَ لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى (وَكَذَا لَوْ كَانَ تَارِيخُ بَيِّنَةِ الْمَقْذُوفِ) الشَّاهِدَةِ بِكِبَرِهِ (قَبْلَ تَارِيخِ بَيِّنَةِ الْقَاذِفِ) الشَّاهِدَةِ بِصِغَرِ مَقْذُوفٍ؛ فَيَتَعَارَضَانِ؛ وَيَسْقُطَانِ؛ وَيُرْجَعُ لِقَوْلِ قَاذِفٍ أَنَّ الْقَذْفَ كَانَ حِينَ صِغَرِ الْمَقْذُوفِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَتُهُ مِنْ الْحَدِّ. (وَمَنْ قَالَ لِابْنِ عِشْرِينَ سَنَةً زَنَيْت مِنْ ثَلَاثِينَ عَامًا) لَمْ يُحَدَّ (أَوْ) قَالَ لَهُ زَنَيْت (مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ) عَامًا (لَمْ يُحَدَّ) لِلْعِلْمِ بِكَذِبِهِ (وَلَا يَسْقُطُ) حَدُّ قَذْفٍ (بِرِدَّةِ مَقْذُوفٍ بَعْدَ طَلَبٍ أَوْ زَوَالِ إحْصَانٍ وَلَوْ لَمْ يُحْكَمْ بِوُجُوبِهِ)، أَيْ: الْحَدِّ، اعْتِبَارًا بِوَقْتِ الْوُجُوبِ، وَكَمَا لَوْ زَنَى بِامْرَأَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا..فَصْلٌ: [متى يجوز الْقَذْفُ]: (وَيَحْرُمُ الْقَذْفُ إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرَى زَوْجَتَهُ تَزْنِي [فِي طُهْرٍ لَمْ يَطَأْ]) هَا (فِيهِ، فَيَعْتَزِلُهَا، ثُمَّ تَلِدُ مَا يُمْكِنُ كَوْنُهُ مِنْ الزَّانِي، فَيَلْزَمُهُ قَذْفُهَا وَنَفْيِهِ)؛ أَيْ: الْوَلَدِ بِاللِّعَانِ؛ لِجَرَيَانِ ذَلِكَ مَجْرَى الْيَقِينِ فِي أَنَّ الْوَلَدَ مِنْ الزَّانِي حَيْثُ أَتَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ مِنْ وَطْئِهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْفِ الْوَلَدَ [لَحِقَهُ،] وَوَرِثَهُ وَوَرِثَ أَقَارِبَهُ، وَوَرِثُوا مِنْهُ وَنَظَرَ إلَى بَنَاتِهِ وَأَخَوَاتِهِ وَنَحْوِهِنَّ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ فَوَجَبَ نَفْيُهُ إزَالَةً لِذَلِكَ، وَلِحَدِيثِ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَلَيْسَتْ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ وَلَنْ يُدْخِلَهَا اللَّهُ جَنَّتَهُ وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَيْهِ احْتَجَبَ اللَّهُ مِنْهُ، وَفَضَحَهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ» رَوَاه أَبُو دَاوُد. وَقَوْلُهُ: وَيَنْظُرُ إلَيْهِ، يَعْنِي يَرَى الْوَلَدَ مِنْهُ، فَكَمَا حَرَّمَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تُدْخِلَ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَالرَّجُلُ مِثْلُهَا وَلَوْ أَقَرَّتْ بِالزِّنَا، وَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ صِدْقُهَا؛ فَهُوَ كَمَا لَوَرَآهَا تَزْنِي (وَكَذَا إنْ وَطِئَهَا) هُوَ؛ أَيْ: زَوْجُهَا (فِي طُهْرٍ زَنَتْ فِيهِ، وَقَوِيَ فِي ظَنِّهِ)؛ أَيْ: الزَّوْجِ (أَنْ الْوَلَدَ مِنْ الزَّانِي لِشَبَهِهِ بِهِ)؛ أَيْ: الزَّانِي (وَنَحْوِهِ كَعُقُمِ زَوْجٍ)؛ أَيْ: كَكَوْنِ الزَّوْجِ عَقِيمًا، لِأَنَّ ذَلِكَ مَعَ تَحَقُّقِ الزِّنَا دَلِيلٌ أَنَّ الْوَلَدَ مِنْ الزَّانِي، وَلِقِيَامِ غَلَبَةِ الظَّنِّ مَقَامَ التَّحْقِيقِ. الْمَوْضِعُ (الثَّانِي أَنْ يَرَاهَا تَزْنِي، وَلَمْ تَلِدْ مَا)؛ أَيْ: وَلَدًا (يَلْزَمُهُ نَفْيُهُ) بِأَنْ لَمْ تَلِدْ، أَوْ وَلَدَتْ مَا لَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مِنْ زَانٍ (أَوْ يَسْتَفِيضَ زِنَاهَا) بَيْنَ النَّاسِ أَوْ يُخْبِرَهُ بِهِ ثِقَةٌ لَا عَدَاوَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا (أَوْ يَرَى رَجُلًا مَعْرُوفًا بِهِ)؛ أَيْ: الزِّنَا (عِنْدَهَا؛ فَيُبَاحُ لِزَوْجِهَا قَذْفُهَا بِهِ)؛ أَيْ: بِالرَّجُلِ الْمَعْرُوفِ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِمَّا يُغَلِّبُ عَلَى الظَّنِّ زِنَاهَا، وَلَمْ يَجِبْ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى غَيْرِهَا حَيْثُ لَمْ تَلِدْ، وَلَا يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ [يُمْكِنُ فِرَاقُهَا، (وَفِرَاقُهَا أَوْلَى) مِنْ قَذْفِهَا؛ لِأَنَّهُ أَسْتَرُ، وَلِأَنَّ قَذْفَهَا يُفْضِي إلَى حَلِفِ] أَحَدِهِمَا كَاذِبًا إنْ تَلَاعَنَا أَوْ إقْرَارِهَا؛ فَتَفْتَضِحُ. وَلَا يَجُوزُ قَذْفُهَا بِخَبَرِ مَنْ لَا يُوثَقُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى الْكَذِبِ عَلَيْهَا، وَلَا بِرُؤْيَتِهِ رَجُلًا عِنْدَهَا غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِالزِّنَا إنْ لَمْ يَسْتَفِضْ زِنَاهَا؛ لِجَوَازِ دُخُولِهِ سَارِقًا وَنَحْوِهِ. (وَإِنْ أَتَتْ) زَوْجَةُ شَخْصٍ (بِوَلَدٍ يُخَالِفُ لَوْنُهُ لَوْنَهُمَا) كَأَسْوَدَ. وَالزَّوْجَانِ أَبْيَضَانِ (لَمْ يُبَحْ) لِزَوْجِهَا (نَفْيُهُ بِذَلِكَ) أَيْ: بِمُخَالِفَةِ لَوْنِهِ لَوْنَهُمَا؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إنَّ امْرَأَتِي جَاءَتْ بِوَلَدٍ أَسْوَدَ يُعَرِّضُ بِنَفْيِهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «هَلْ لَكَ مِنْ إبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ: حُمْرٌ. قَالَ: هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ قَالَ: إنَّ فِيهَا لَوُرْقًا. قَالَ: فَأَنَّى أَتَاهَا ذَلِكَ؟ قَالَ: عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ، قَالَ: فَهَذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ». قَالَ: وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الِانْتِفَاءِ مِنْهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ مِنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَأَلْوَانُهُمْ وَخَلْقُهُمْ مُخْتَلِفٍ، فَلَوْلَا مُخَالَفَتُهُمْ صِفَةَ أَبَوَيْهِمْ لَكَانُوا عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ (بِلَا قَرِينَةٍ) فَإِنْ؛ كَانَتْ بِأَنْ رَأَى عِنْدَهَا رَجُلًا يُشْبِهُ مَا وَلَدَتْهُ؛ فَلَهُ نَفْيُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعَ الشُّبْهَةِ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِهِ. فَصْلٌ وَلِلْقَذْفِ صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ (وَصَرِيحُهُ يَا مَنْيُوكَةَ إنْ لَمْ يُفَسِّرْهُ) قَاذِفٌ (بِفِعْلِ زَوْجٍ أَوْ سَيِّدٍ) فَإِنْ فَسَّرَهُ بِذَلِكَ فَلَيْسَ قَذْفًا (وَيَتَّجِهُ) أَنَّهُ يُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ ذَلِكَ بِفِعْلِ زَوْجٍ أَوْ سَيِّدٍ (وَلَوْ تَرَاخَى) وَهُوَ مُتَّجِهٌ (يَا مَنْيُوكَةَ يَا زَانِي يَا عَاهِرُ، أَوْ قَدْ زَنَيْتِ أَوْ زَنَى فَرْجُكِ وَنَحْوُهُ) كَ رَأَيْتُكِ تَزْنِي، وَأَصْلُ الْعِهْرِ إتْيَانُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ لَيْلًا لِلْفُجُورِ بِهَا، ثُمَّ غَلَبَ عَلَى الزِّنَا، سَوَاءٌ جَاءَهَا أَوْ جَاءَتْهُ؛ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، (أَوْ) قَالَ لَهُ (يَا مَفْعُوجٍ) بِالْفَاءِ وَالْجِيمِ نَصًّا، لِاسْتِعْمَالِ النَّاسِ لَهُ بِمَعْنَى الْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ، وَأَصْلُهُ الضَّرْبُ (أَوْ) قَالَ لَهُ (يَا لُوطِيُّ) لِأَنَّهُ فِي الْعُرْفِ مَنْ يَأْتِي الذُّكُورَ؛ لِأَنَّهُ عَمَلُ قَوْمِ لُوطٍ (فَإِنْ قَالَ أَرَدْتُ) بِقَوْلِي: يَا زَانِي وَنَحْوُهُ (زَانِي الْعَيْنِ) وَنَحْوَهُ، (أَوْ) أَرَدْتُ بِقَوْلِي يَا عَاهِرُ (عَاهِرَ الْيَدِ) (أَوْ) قَالَ أَرَدْتُ بِقَوْلِي يَا لُوطِيُّ (أَنَّكَ مِنْ قَوْمِ لُوطٍ، أَوْ إنَّكَ تَعْمَلُ عَمَلَهُمْ مِنْ غَيْرِ إتْيَانِ الذُّكُورِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ) ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ (وَحُدَّ) لِإِتْيَانِهِ بِصَرِيحِ الْقَذْفِ.(وَ) قَوْلُ الْمُكَلَّفِ لِشَخْصٍ (لَسْت لِأَبِيك أَوْ) لَسْت (بِوَلَدِ فُلَانٍ) الَّذِي يُنْسَبُ إلَيْهِ (قَذْفٌ لِأُمِّهِ)؛ أَيْ: الْمَقُولِ لَهُ لِإِثْبَاتِهِ الزِّنَا لِأُمِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ لِأَبِيهِ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِذَا نَفَاهُ عَنْ أَبِيهِ فَقَدْ أَثْبَتَ لِغَيْرِهِ، وَالْغَيْرُ لَا يُمْكِنُ إحْبَالُهُ لَهَا فِي زَوْجِيَّةِ أَبِيهِ إلَّا بِزِنًا، فَكَانَ قَذْفًا، وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَنْظُرُوا لِاحْتِمَالِ الشُّبْهَةِ؛ لِبُعْدِهِ، وَمَحِلُّ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَسْأَلْ عَمَّا أَرَادَ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ. قَوْلُهُ (وَيَتَّجِهُ الْأَصَحُّ) أَنَّ قَوْلَهُ لَسْتَ لِأَبِيكَ، أَوْ لَسْتَ بِوَلَدِ فُلَانٍ (لَا) يَكُونُ ذَلِكَ قَذْفًا لِأُمِّهِ؛ لِاحْتِمَالِ إرَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يُشْبِهُ أَبَاهُ فِي كَرَمِهِ وَأَخْلَاقِهِ، أَوْ أَنَّهُ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ إكْرَاهٍ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ، يُؤَيِّدُهُ قَوْلُ (إلَّا) أَنْ يَكُونَ الْمَقُولُ لَهُ ذَلِكَ (مَنْفِيًّا بِلِعَانٍ لَمْ يَسْتَلْحِقْهُ مُلَاعِنٌ) بَعْدَ نَفْيِهِ، فَإِنْ اسْتَلْحَقَهُ فَهُوَ قَذْفٌ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَلْحِقْهُ مُلَاعِنٌ (وَلَمْ يُفَسِّرْ) قَائِلُ ذَلِكَ (بِزِنَا أُمِّهِ) فَلَا يَكُونُ قَذْفًا لَهَا وَلَا حَدَّ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَى الْوَلَدَ الْمَنْفِيَّ بِاللِّعَانِ عَنْ أَبِيهِ، إلَّا أَنْ يُفَسِّرَهُ بِأَنَّ أُمَّهُ زَنَتْ (وَكَذَا إنْ نَفَاهُ عَنْ قَبِيلَتِهِ) بِأَنْ قَالَ: لَسْت مِنْ قَبِيلَةِ كَذَا، فَإِنَّهُ يَكُونُ قَذْفًا لِأُمِّهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَنْفِيًّا بِلِعَانٍ لَمْ يَسْتَلْحِقْهُ أَبُوهُ، وَلَمْ يُفَسِّرْهُ بِزِنَا أُمِّهِ. لِحَدِيثِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ مَرْفُوعًا «لَا أُوتَى بِرَجُلٍ يَقُولُ إنَّ كِنَانَةَ لَيْسَتْ مِنْ قُرَيْشٍ إلَّا جَلَدْتُهُ» وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَا أَجْلِدُ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٍ قَذَفَ مُحْصَنَةً أَوْ نَفَى رَجُلًا عَنْ أَبِيهِ (وَ) قَوْلُهُ لِآخَر (مَا أَنْتَ ابْنُ فُلَانَةَ لَيْسَ بِقَذْفٍ مُطْلَقًا) سَوَاءٌ أَرَادَ قَذْفَهُ بِهِ أَوْ لَا إذْ الْوَلَدُ مِنْ أُمِّهِ بِكُلِّ حَالٍ، (وَ) قَوْلُهُ لِوَلَدِهِ: (لَسْت بِوَلَدِي كِنَايَةٌ فِي قَذْفِ [أُمِّهِ]) نَصًّا، لِأَنَّ الْوَالِدَ إذَا أَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ وَلَدِهِ يَقُولُ لَهُ ذَلِكَ كَثِيرًا، يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُشْبِهُهُ؛ لَا أَنَّهُ لَيْسَ مَخْلُوقًا مِنْ مَائِهِ؛ فَلَا يَكُونُ قَذْفًا لِأُمِّهِ مَعَ الِاحْتِمَالِ إلَّا مَعَ إرَادَتِهِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ.(وَ) قَوْلُ إنْسَانٍ لِغَيْرِهِ: (أَنْتِ أَزَنَى النَّاسِ أَوْ): أَنْتِ أَزَنَى (مِنْ فُلَانَةَ) أَوْ فُلَانٍ صَرِيحٌ فِي الْمُخَاطَبِ بِذَلِكَ فَقَطْ؛ لِاسْتِعْمَالِ أَفْعَلَ فِي الْمُنْفَرِدِ بِالْفِعْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنَ لَا يَهِدِّي} وَقَوْلِهِ: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ}.(وَ) قَوْلِهِمْ: الْعَسَلُ أَحْلَى مِنْ الْخَلِّ (أَوْ قَالَ لَهُ)؛ أَيْ: الرَّجُلِ (يَا زَانِيَةُ أَوْ قَالَ) [(لَهَا) أَيْ الْمَرْأَةِ (يَا زَانِي)] (صَرِيحٌ فِي الْمُخَاطَبِ بِذَلِكَ) لِأَنَّ مَا كَانَ قَذْفًا لِأَحَدِ الصِّنْفَيْنِ كَانَ قَذْفًا لِلْمُخَاطَبِ، وَقَدْ يَكُونُ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ بِمُلَاحَظَةِ الذَّاتِ وَالشَّخْصِ وَ(كَفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِهَا لَهُمَا)؛ أَيْ: الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى (فِي زَنَيْتِ) لِأَنَّهُ خِطَابٌ لَهُمَا، وَإِشَارَةٌ إلَيْهِمَا بِلَفْظِ الزِّنَا كَقَوْلِهِ لِامْرَأَةٍ: يَا شَخْصًا زَانِيًا، وَلِرَجُلٍ: يَا نَسَمَةٌ زَانِيَةٌ (وَلَيْسَ) الْقَائِلُ أَنْتِ أَزَنَى مِنْ فُلَانَةَ (بِقَاذِفٍ لِفُلَانَةَ)، وَلِمَا تَقَدَّمَ، لِقَوْمِ لُوطٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ»، أَيْ: مِنْ أَدْبَارِ الذُّكُورِ، وَلَا طَهَارَةَ فِيهَا. (وَمَنْ قَالَ عَنْ اثْنَيْنِ أَحَدُهُمَا زَانٍ، فَقَالَ لَهُ أَحَدُهُمَا أَنَا، فَقَالَ لَا فَهُوَ قَذْفٌ لِلْآخَرِ) لِتَعَيُّنِهِ بِنَفْيِهِ عَنْ الْآخَرِ، (وَ) قَوْلِهِ لِآخَرَ (زَنَأَتْ مَهْمُوزًا صَرِيحٌ) فِي قَذْفِهِ (وَلَوْ زَادَ فِي الْحِيَلِ أَوْ عَرَفَ الْعَرَبِيَّةَ) لِأَنَّ عَامَّةَ النَّاسِ لَا يَفْهَمُونَ مِنْهُ إلَّا الْقَذْفَ كَغَيْرِ الْمَهْمُوزِ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ طَلَعْتَ (أَوْ) قَالَ لِرَجُلٍ (يَا نَاكِحَ أُمِّهِ) وَهِيَ حَيَّةٌ (يَلْزَمُهُ حَدَّانِ) نَصًّا (وَكَذَا:) لَوْ قَالَ لَهُ (يَا زَانِي ابْنَ الزَّانِي) إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. (وَمَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ، فَقَاذِفٌ [لَهَا]) فَيَلْزَمُهُ حَدُّهُ (وَلَمْ يَلْزَمْهُ حَدُّ الزِّنَا) بِإِقْرَارِهِ بِأَنْ لَمْ يُقِرَّ أَرْبَعًا، أَوْ أَقَرَّ أَرْبَعًا ثُمَّ رَجَعَ. (وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا زَانِيَةُ، فَقَالَتْ: بِكَ زَنَيْت) لَمْ تَكُنْ، قَاذِفَةً لَهُ، لِأَنَّهَا صَدَّقَتْهُ (وَسَقَطَ حَقُّهَا) مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ (بِتَصْدِيقِهَا لَهُ وَ) لَا يَجِبُ عَلَيْهَا حَدُّ الْقَذْفِ لِأَنَّهَا (لَمْ تَقْذِفْهُ) لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الزِّنَا مِنْهَا بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ زَانِيًا بِهَا بِأَنْ يَكُونَ قَدْ وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ، وَهِيَ عَالِمَةٌ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَا، لِأَنَّهَا لَمْ تُقِرَّ بِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ (وَيُحَدَّانِ)، أَيْ: الْمُتَكَلِّمَانِ (فِيمَا إذَا قَالَ) لِامْرَأَتِهِ (زَنَى بِكِ فُلَانٌ، فَقَالَتْ: بَلْ أَنْتِ زَنَى بِكَ أَوْ) قَالَ لَهَا (يَا زَانِيَةُ، فَقَالَتْ بَلْ: أَنْتَ زَانٍ) لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَذَفَ الْآخَرَ..فَصْلٌ: [الْكِنَايَةُ في الْقَذْفِ]: (وَكِنَايَتُهُ)، أَيْ الْقَذْفِ وَالتَّعْرِيضِ بِهِ نَحْوُ (زَنَتْ يَدَاكَ، أَوْ) زَنَتْ (رِجْلَاكَ، أَوْ) زَنَتْ (يَدُكَ أَوْ) زَنَتْ (رِجْلُكَ) لِأَنَّ زِنَا هَذِهِ الْأَعْضَاءِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْبَطْشُ، وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْمَشْيُ، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ أَوْ يُكَذِّبُهُ» (أَوْ) زَنَى بَدَنُكَ لِأَنَّ زِنَاهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِزِنَا شَيْءٍ مِنْ أَعْضَائِهِ عَلَى الْمَعْنَى السَّابِقِ غَيْرِ الْفَرْجِ (أَوْ يَا خَنِثُ بِالنُّونِ يَا نَظِيفُ يَا عَفِيفُ) لِامْرَأَةٍ (يَا قَحْبَةُ يَا فَاجِرَةُ يَا خَبِيثَةُ) فَإِنَّ ظَاهِرَهَا فِي الِاسْتِعْمَالِ كَنِسْبَةِ الزِّنَا إلَيْهَا مَعَ احْتِمَالِ غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْفُجُورَ فِي اللُّغَةِ: الْكَذِبُ وَالِانْبِعَاثُ فِي الْمَعَاصِي، وَذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ الزِّنَا، وَالْقَحْبَةُ فِي الْعُرْفِ: هِيَ الْمُتَصَنِّعَةُ لِلْفُجُورِ، فَإِطْلَاقُ الْقَبْحَةِ عَلَيْهَا لَا يُوجِبُ إضَافَةَ الزِّنَا إلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَتَصَنَّعُ فِي نَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ فُجُورٍ، وَأَقْحَبَتْ أَعَمُّ مِنْ الْفُجُورِ، فَلَا يَتَعَيَّنُ الْفُجُورُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهِ غَيْرُ الْفُجُورِ مِنْ خُبْثِ النَّفْسِ وَالطَّوِيَةِ وَالْأَفْعَالِ، وَإِذَا احْتَمَلَ مِثْلَ هَذَا الْمَعَانِيَ لَا يَكُونُ صَرِيحًا فِيهِ.(وَ) قَوْلُهُ (لِزَوْجَةِ شَخْصٍ قَدْ فَضَحْته وَغَطَّيْتِ) رَأْسَهُ (أَوْ نَكَّسْتِ رَأْسَهُ)؛ أَيْ: حَيَاءً مِنْ النَّاسِ بِشَكْوَاكِ (وَجَعَلْتِ لَهُ قُرُونًا)؛ أَيْ: أَنَّهُ مُسَخَّرٌ لَكَ، مُنْقَادٌ كَالثَّوْرِ، (وَعَلِقْتِ عَلَيْهِ أَوْلَادًا مِنْ غَيْرِهِ)؛ أَيْ: مِنْ زَوْجٍ آخَرَ، أَوْ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ (وَأَفْسَدْتِ فِرَاشَهُ)؛ أَيْ: بِالنُّشُوزِ أَوْ الشِّقَاقِ وَبِمَنْعِ الْوَطْءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.(وَ) قَوْلُهُ (لِعَرَبِيٍّ يَا نَبَطِيُّ يَا فَارِسِيُّ يَا رُومِيُّ)؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ نَبَطِيَّ اللِّسَانِ، أَوْ فَارِسِيَّ الطَّبْعِ، أَوْ رُومِيَّ الْخِلْقَةِ؛ (وَ) قَوْلُهُ (لِأَحَدِهِمْ)؛ أَيْ: النَّبَطِيِّ أَوْ فَارِسِيِّ أَوْ رُومِيِّ (يَا عَرَبِيُّ) وَالنَّبَطُ قَوْمٌ يَنْزِلُونَ بِالْبَطَائِحِ بَيْنَ الْعِرَاقِيِّينَ. [وَفَارِسُ] بِلَادٌ مَعْرُوفَةٌ، وَأَهْلُهَا الْفُرْسُ، وَفَارِسٌ أَبُوهُمْ، وَالرُّومُ فِي الْأَصْلِ ابْنُ عِيصِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَلَوْ قَالَ لِعَرَبِيٍّ: يَا أَعْجَمِيُّ بِالْأَلِفِ لَمْ يَكُنْ قَذْفًا، لِأَنَّهُ نِسْبَةٌ إلَى الْعُجْمَةِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْعَرَبِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَا غَيْرَ فَصِيحٍ، (وَ) قَوْلُهُ (لِمَنْ يُخَاصِمُهُ يَا حَلَالُ ابْنَ الْحَلَالِ مَا يَعْرِفُكَ النَّاسُ بِالزِّنَا) فَإِنَّ هَذَا فِي الظَّاهِرِ مِنْ اللَّفْظِ لَيْسَ بِقَذْفٍ. وَ(التَّعْرِيضُ) فِي الْقَذْفِ كَقَوْلِهِ لِآخَرَ (مَا أَنَا بِزَانٍ، أَوْ مَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ أَوْ يَسْمَعُ مَنْ يَقْذِفُ شَخْصًا ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: صَدَقْت، أَوْ صَدَقْت فِيمَا قُلْت، أَوْ أَخْبَرَنِي) فُلَانٌ أَنَّكَ زَنَيْت (أَوْ أَشْهَدَنِي فُلَانٌ أَنَّكَ زَنَيْت وَكَذَّبَهُ فُلَانٌ) لِأَنَّهُ إنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ قَدْ قَذَفَ، فَلَمْ يَكُنْ قَذْفًا، كَمَا لَوْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَذَفَ رَجُلًا. قَالَهُ فِي الرِّعَايَةِ أَوْ قَالَ لَهَا: لَمْ أَجِدْكِ عَذْرَاءَ كِنَايَةً.قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَة حَنْبَلٍ: لَا أَرَى الْحَدَّ إلَّا عَلَى مَنْ صَرَّحَ بِالْقَذْفِ أَوْ الشَّتْمَةِ (فَإِنْ نَوَى بِمَا) مَرَّ مِنْ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ الزِّنَا، (لَزِمَهُ الْحَدُّ بَاطِنًا، وَيَلْزَمُهُ أَيْضًا إظْهَارُ نِيَّتِهِ) اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ، (وَإِلَّا) يَنْوِ بِذَلِكَ الزِّنَا (عُزِّرَ، وَلَوْ لَمْ يُفَسِّرْهُ بِمُحْتَمَلٍ غَيْرِ قَذْفٍ) لِارْتِكَابِهِ مَعْصِيَةً لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا كَفَّارَةَ (خِلَافًا لِلْمُنْتَهَى) حَيْثُ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ، فَإِنْ فَسَّرَهُ بِمُحْتَمَلٍ غَيْرِ الْقَذْفِ، قُبِلَ وَعُزِّرَ، فَيُفْهَمُ مِنْ عِبَارَتِهِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُفَسِّرْهُ أَوْ فَسَّرَهُ بِغَيْرِ مُحْتَمَلٍ يَكُونُ قَاذِفًا، وَعِبَارَةُ الْإِقْنَاعِ لَا تُؤَدِّي غَيْرَ مَا يُفْهَمُ مِنْ الْمُنْتَهَى فَلَوْ أَشَارَ لِخِلَافِهِمَا لَكَانَ ظَاهِرًا، وَظَاهِرُ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ (أَنَّهُ لَا يَكُونُ قَاذِفًا إلَّا إنْ فَسَّرَهُ بِالزِّنَا) أَوْ نَوَاهُ؛ فَيَلْزَمُهُ بَاطِنًا، وَيَلْزَمُهُ إظْهَارُ مَا نَوَاهُ عَلَى الْأَصَحِّ (وَاخْتَارَ) أَبُو الْوَفَاءِ عَلِيُّ (ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّ أَلْفَاظَ الْكِنَايَاتِ مَعَ دَلَالَةِ الْحَالِ) كَمَا لَوْ نَشَأَتْ عَنْ خُصُومَةٍ (صَرَائِحُ) لِاسْتِحَالَةِ إرَادَةِ عَكْسِ الْمَفْهُومِ مِنْهَا.قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي الْمُشْكَلِ التَّعْرِيضُ تَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ فِي كَلَامِهِمْ كَثِيرًا، فَتَبْلُغُ بِهِ إرَادَتَهَا بِوَجْهٍ لَطِيفٍ أَحْسَنَ مِنْ الْكَشْفِ وَالتَّصْرِيحِ؛ وَبِذَلِكَ يَقُولُ: إيَّاكَ- أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ. فَقَرِينَةُ الْحَالِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَلْفَاظِ تُحِيلُ الْمَعَانِيَ وَتَصْرِفُهَا عَنْ مَوْضِعِهَا لِعَدَمِ إمْكَانِ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ كَانَ التَّعْرِيضُ هُنَا كَالتَّصْرِيحِ، لِظُهُورِ دَلَالَةِ الْحَالِ فِيهِ. وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ رَجُلَيْنِ اسْتَبَّا فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: وَاَللَّهِ مَا أَنَا بِزَانٍ وَمَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ، فَاسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ قَائِلٌ: مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: قَدْ كَانَ لِأُمِّهِ وَأَبِيهِ مَدِيحٌ سِوَى هَذَا؛ نَرَى أَنْ يَجْلِدَهُ الْحَدَّ، فَجَلَدَهُ عُمَرُ الْحَدَّ ثَمَانِينَ. وَقَدْ ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ الْعِلَلِ فِي طَرِيقِ أَحْمَدَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اُشْتُهِرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مُخَالِفٌ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا، فَأَمَّا فِي غَيْرِ حَالَةِ الْخُصُومَةِ، وَلَا وُجِدَتْ قَرِينَةٌ؛ فَلَا يَكُونُ قَذْفًا، قَالَهُ فِي شَرْحِ الْوَجِيزِ وَمَا تَقَدَّمَ هُوَ الْمَذْهَبُ. (وَيُعَزَّرُ بِقَوْلِهِ: يَا كَافِرُ يَا فَاسِقُ يَا فَاجِرُ يَا حِمَارُ يَا تَيْسُ يَا رَافِضِيُّ وَيَا خَبِيثَ الْبَطْنِ أَوْ) (يَا خَبِيثَ الْفَرْجِ يَا عَدُوَّ اللَّهِ يَا ظَالِمُ يَا كَذَّابُ) يَا سَارِقُ يَا مُنَافِقُ يَا أَعْوَرُ يَا أَقْطَعُ يَا أَعْمَى يَا مُقْعَدُ يَا ابْنَ الزَّمِنِ الْأَعْمَى الْأَعْرَجِ (يَا خَائِنُ يَا شَارِبَ الْخَمْرِ يَا قَرْنَانُ يَا دَيُّوثُ) وَهُوَ الَّذِي يُقِرُّ السُّوءَ عَلَى أَهْلِهِ، وَقِيلَ الَّذِي يَدْخُلُ الرِّجَالُ عَلَى امْرَأَتِهِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هُوَ الَّذِي لَا غَيْرَةَ لَهُ (يَا كَشْخَان) بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِهَا الدَّيُّوثُ، قَالَهُ الْحَجَّاوِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ (يَا قَرْطَبَانُ) قَالَ ثَعْلَبٌ: الْقَرْطُبَانُ الَّذِي يَرْضَى أَنْ يَدْخُلَ الرِّجَالُ عَلَى نِسَائِهِ، وَقَالَ: الْقَرْنَانُ وَالْكَشْخَانُ لَمْ أَرَهُمَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمَعْنَاهُمَا عِنْدَ الْعَامَّةِ مِثْلُ مَعْنَى الدَّيُّوثِ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ (وَبِكُلِّ لَفْظٍ أَشْعَرَ بِالسَّبِّ كَيَا جَائِرُ يَا مُرَائِي يَا قَوَّادُ)، وَهُوَ عِنْدَ الْعَامَّةِ السِّمْسَارُ فِي الزِّنَا، وَيَا مُعَرِّصُ يَا عَرِصَةُ، وَيَنْبَغِي فِيهِمَا بِحَسَبِ الْعُرْفِ أَنْ يَكُونَا صَرِيحَيْنِ، وَيَا حَرُورِيُّ نِسْبَةً إلَى الْحَرُورِيَّةِ فِرْقَةٍ مِنْ الْخَوَارِجِ (وَكَذَا)؛ أَيْ: وَمِثْلُهُ فِي الْحُكْمِ قَوْلُ شَخْصٍ لِآخَرَ (يَا مُخَنَّثُ يَا عِلْقُ يَا مَأْبُونُ)؛ أَيْ: مَعْيُوبُ، وَفِي عُرْفِ زَمَنِنَا مَنْ بِهِ دَاءٌ فِي دُبُرِهِ. (وَيَتَّجِهُ أَنَّهَا)؛ أَيْ: هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الثَّلَاثَةَ لَيْسَتْ بِصَرَائِحَ، بَلْ هِيَ كِنَايَةٌ لِأَنَّهَا لَا تُعْطِي أَنْ يَفْعَلَ بِمُقْتَضَاهَا إلَّا بِقَوْلِ آخَرَ يَدُلُّ عَلَى الْفِعْلِ، كَقَوْلِهِ لِلْمَرْأَةِ يَا شَبِقَةُ يَا مُغْتَلِمَةُ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (وَمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ يَا عَالِمُ يَا فَاضِلُ يَا كَرِيمُ إنْ كَانَ أَهْلًا) لِهَذِهِ الصِّفَاتِ فَهُوَ مَدْحٌ، (وَإِلَّا) يَكُنْ أَهْلًا (فـَ) هُوَ (اسْتِهْزَاءٌ) فَيُعَزَّرُ خُصُوصًا مَعَ الْخِصَامِ؛ لِاقْتِضَاءِ قَرِينَةِ الْحَالِ إرَادَةَ عَكْسِ الْمَفْهُومِ مِنْ اللَّفْظِ.(وَ) قَالَ (فِي الرِّعَايَةِ مَنْ قَالَ لِظَالِمِ ابْنِ ظَالِمٍ جَبَرَكَ اللَّهُ وَيَرْحَمُ سَلَفَك احْتَمَلَ الْمَدْحَ) لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ (وَ) احْتَمَلَ (التَّهَزُّؤُ وَأَنَّهُ)؛ أَيْ: التَّهَزُّؤُ؛ (أَظْهَرُ مِنْهُ؛ فَيُعَزَّرُ) لِعَدَمِ إمْكَانِ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ..فَصْلٌ: [مَنْ قَذَفَ أَهْلَ بَلْدَةٍ]: (وَمَنْ قَذَفَ أَهْلَ بَلْدَةٍ) عُزِّرَ (أَوْ) قَذَفَ (جَمَاعَةً لَا يُتَصَوَّرُ الزِّنَا مِنْهُمْ عَادَةً) عُزِّرَ؛ لِأَنَّهُ لَا عَارَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ؛ لِلْقَطْعِ بِكَذِبِ الْقَاذِفِ (أَوْ اخْتَلَفَا فِي شَيْءٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: الْكَاذِبُ ابْنُ الزَّانِيَةِ؛ عُزِّرَ، وَلَا حَدَّ) عَلَيْهِ نَصًّا؛ لِعَدَمِ تَعْيِينِ الْقَاذِفِ (كَقَوْلِهِ مَنْ رَمَانِي بِالزِّنَا فَهُوَ ابْنُ الزَّانِيَةِ) وَيُعَزَّرُ.قَالَ فِي الْفُرُوعِ لَكِنْ يُتَوَجَّهُ أَنَّهُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَحْرِيمِ غِيبَةِ أَهْلِ قَرْيَةٍ لَا أَحَدَ هَؤُلَاءِ. أَوْ وَصَفَ رَجُلًا بِمَكْرُوهٍ لِمَنْ لَا يَعْرِفُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَذَّى غَيْرُ الْمُعَيَّنِ، كَقَوْلِهِ فِي الْعَالِمِ مَنْ يَزْنِي وَنَحْوَهُ إلَّا أَنْ يُعْرَفَ بَعْدَ الْبَحْثِ. (وَمَنْ قَالَ لِمُكَلَّفٍ: اقْذِفْنِي، فَقَذَفَهُ؛ لَمْ يُحَدَّ؛ لِأَنَّهُ)؛ أَيْ: الْحَدَّ (حَقٌّ لَهُ)؛ أَيْ: الْمَقْذُوفِ وَقَدْ سَقَطَ بِالْإِذْنِ فِيهِ (وَعُزِّرَ) لِفِعْلِهِ مَعْصِيَةً، وَ(لِأَنَّهُ رَضِيَ أَنْ يُشْتَمَ أَوْ يُغْتَابَ أَوْ يُجْنَى عَلَيْهِ وَنَحْوَهُ) كَمَا لَوْ تَصَدَّقَ بِعَرْضِهِ عَلَى النَّاسِ؛ لَمْ يَمْلِكْهُ وَلَمْ يُبَحْ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْحَقِّ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِهِ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ. (وَلَيْسَ لِوَلَدِ مُحْصَنٍ) ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى (قُدِفَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (مُطَالَبَةٌ) عَلَى قَاذِفِ وَالِدِهِ (مَا دَامَ وَالِدُهُ) أَيْ وَالِدُ الْمَقْذُوفِ (حَيًّا)؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ مَوْجُودٌ؛ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ الْمُطَالَبَةُ بِدُونِ تَوْكِيلِهِ. (فَإِنْ مَاتَ) مَقْذُوفٌ (وَلَمْ يُطَالِبْ) قَاذِفًا (بِهِ)؛ أَيْ: الْحَدِّ (سَقَطَ) كَالشَّفِيعِ إذَا مَاتَ قَبْلَ طَلَبِ الشُّفْعَةِ، (وَإِلَّا) بِأَنْ طَالَبَ بِهِ مَقْذُوفٌ قَبْلَ مَوْتِهِ (فَلَا) يَسْقُطُ؛ لِأَنَّهُ بِمُطَالَبَةِ الْمَيِّتِ قَبْلَ مَوْتِهِ عُلِمَ أَنَّهُ قَائِمٌ عَلَى حَقِّهِ؛ فَقَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ. (وَهُوَ)؛ أَيْ: حَدُّ الْقَذْفِ حَقٌّ (لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ وَلَوْ زَوْجًا) أَوْ زَوْجَةً (كَإِرْثٍ) لِأَنَّهُ حَقٌّ وُرِثَ عَنْ الْمَيِّتِ؛ فَاشْتَرَكَ فِيهِ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ (فَلَوْ عَفَا بَعْضُهُمْ)؛ أَيْ: الْوَرَثَةِ (حُدَّ لِبَاقٍ) مِنْ الْوَرَثَةِ الَّذِي لَمْ يَعْفُ (كَامِلًا) لِلُحُوقِ الْعَارِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ، وَلِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يَسْقُطُ إلَى بَدَلٍ؛ فَلَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمْ إسْقَاطَ حَقِّ غَيْرِهِ؛ فَوَجَبَ لِمَنْ لَمْ يَعْفُ كَامِلًا، كَمَا لَوْ اسْتَوْفَاهُ الْمَقْذُوفُ قَبْلَ مَوْتِهِ (وَمَنْ قَذَفَ مَيِّتًا، وَلَوْ) كَانَ الْمَيِّتُ (غَيْرَ مُحْصَنٍ؛ حُدَّ) قَاذِفٌ (بِطَلَبِ وَارِثٍ مُحْصَنٍ خَاصَّةً) لِأَنَّ الْحَقَّ فِيهِ يَثْبُتُ لِلْوَارِثِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعَارِ؛ فَاعْتُبِرَ إحْصَانُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الْمَقْذُوفَ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ شُرِعَ لِلتَّشَفِّي بِسَبَبِ الطَّعْنِ وَالْفَرِيَّةِ، وَكَمَا يَلْحَقُ الْعَارُ بِقَذْفِهِ كَذَلِكَ يَلْحَقُ الْعَارُ وَارِثَ الْمَيِّتِ بِقَذْفِ مُوَرِّثِهِ؛ لِأَنَّهُ طَعْنٌ فِي أَصْلِهِ الَّذِي يَسْتَنِدُ إلَيْهِ؛ فَثَبَتَ لَهُ الْحَقُّ رَفْعًا لِلْعَارِ عَنْهُ. (وَمَنْ قَذَفَ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ) عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُفِّرَ (أَوْ) قَذَفَ (أُمَّهُ)؛ أَيْ: أُمَّ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (كُفِّرَ) لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّعْرِيضِ لِلْقَدْحِ بِالنُّبُوَّةِ الْمُوجِبِ لِلْكُفْرِ (وَقُتِلَ) حَتَّى (وَلَوْ تَابَ) نَصًّا؛ لِأَنَّ تَوْبَتَهُ لَا تُقْبَلُ ظَاهِرًا (أَوْ كَانَ) الْقَاذِفُ فِي الصُّورَتَيْنِ (كَافِرًا مُلْتَزِمًا) لِأَحْكَامِنَا (فَأَسْلَمَ) بَعْدَ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ هَا هُنَا حَدٌّ لِلْقَذْفِ. وَحَدُّ الْقَذْفِ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ كَقَذْفِ غَيْرِهِمَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ لَسَقَطَ حَدُّهُ الَّذِي هُوَ الْقَتْلُ؛ فَيَصِيرُ أَحَقَّ حُكْمًا مِنْ قَذْفِ آحَادِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ حَدَّ غَيْرِهِمْ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، وَيُسْتَوْفَى مِنْهُ الْحَدُّ مَعَ تَوْبَتِهِ، وَكَوْنِهِ يُقْتَلُ- وَلَوْ قَذَفَ وَهُوَ كَافِرٌ ثُمَّ أَسْلَمَ- لِأَنَّ الْقَتْلَ هُوَ حَدُّ قَذْفِ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَّهَاتِهِمْ؛ فَلَا يَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ كَحَدِّ غَيْرِهِمْ.قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: قَذْفُ نِسَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَذْفِهِ؛ لِقَدْحِهِ فِي دِينِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقْتُلْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا قَبْلَ عِلْمِهِ بَرَاءَتَهَا وَأَنَّهَا مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِإِمْكَانِ الْمُفَارَقَةِ فَتَخْرُجُ بِهَا مِنْهُنَّ، وَتَحِلُّ لِغَيْرِهِ. وَلَا يُقْتَلُ كَافِرٌ سَبَّ نَبِيًّا بِغَيْرِ الْقَذْفِ ثُمَّ أَسْلَمَ؛ لِأَنَّ سَبَّ اللَّهِ تَعَالَى يَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ، فَسَبُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى، وَتَقَدَّمَ آخِرَ بَابِ أَحْكَامِ الذِّمَّةِ (وَلَا يُكَفَّرُ مَنْ قَذَفَ أَبَا شَخْصٍ إلَى آدَم) نَصًّا وَسَأَلَهُ حَرْبٌ عَنْ رَجُلٍ افْتَرَى عَلَى رَجُلٍ، فَقَالَ يَا ابْنَ كَذَا وَكَذَا إلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ، فَعَظَّمَهُ جِدًّا، وَقَالَ عَنْ الْحَدِّ لَمْ يَبْلُغْنِي فِيهِ شَيْءٌ، وَذَهَبَ إلَى حَدٍّ وَاحِدٍ. (وَيَتَّجِهُ أَوْ)؛ أَيْ: وَلَا يُكَفَّرُ مَنْ (لَعَنَ شَرِيفًا وَأَجْدَادَهُ، أَوْ) لَعَنَ رَجُلًا (مُخْتَلَفٌ فِي نُبُوَّتِهِ كَالْخَضِرِ وَلُقْمَانَ) عَلَيْهِمْ السَّلَامُ إذَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ غَيْظًا أَوْ سَفَهًا أَوْ عَبَثًا وَلَعْنًا كَسَبِّ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ سَبًّا لَا يَقْدَحُ فِي دِينِهِمْ أَوْ عَدَالَتِهِمْ كَسَبِّهِ أَحَدَهُمْ أَوْ إيَّاهُ سَبًّا يَقْصِدُ غَيْظَهُ وَالْكَذِبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْغِيبَةَ لَهُمْ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الَّتِي عَلَّمَ اللَّهِ تَحْرِيمَهَا؛ فَإِنَّهُ مِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مُسْتَحِلًّا؛ كُفِّرَ، لِأَنَّ اقْتِرَانَ السَّبِّ مَعَ اعْتِقَادِ حِلِّهِ كُفْرٌ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (وَمَنْ قَذَفَ جَمَاعَةً يُتَصَوَّرُ زِنَاهُمْ عَادَةً بِكَلِمَةٍ) وَاحِدَةٍ كَقَوْلِهِ هُمْ زُنَاةٌ (وَيَتَّجِهُ وَلَوْ كَرَّرَهَا)؛ أَيْ: الْكَلِمَةَ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ (فَطَالَبُوهُ) كُلُّهُمْ وَلَوْ مُتَفَرِّقِينَ (أَوْ) طَالَبَهُ (أَحَدُهُمْ) (فـَ) عَلَيْهِ (حَدٌّ وَاحِدٌ) فَيُحَدُّ لِمَنْ طَلَبَهُ ثُمَّ لَا حَدَّ بَعْدَهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الْآيَةَ فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ قَذَفَ وَاحِدًا أَوْ جَمَاعَةً، وَلِأَنَّهُ قَذْفٌ وَاحِدٌ فَلَا يَجِبُ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ حَدٍّ، وَلِأَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا وَجَبَ بِإِدْخَالِ الْمَعَرَّةِ عَلَى الْمَقْذُوفِ بِقَذْفِهِ، وَبِحَدٍّ وَاحِدٍ يَظْهَرُ كَذِبُ هَذَا الْقَاذِفِ وَتَزُولُ الْمَعَرَّةُ؛ فَوَجَبَ أَنْ يُكْتَفَى بِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَذَفَ كُلًّا مِنْهُمْ قَذْفًا مُنْفَرِدًا، فَإِنَّ كَذَّبَهُ فِي قَذْفِهِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ كَذِبُهُ فِي قَذْفِ آخَرَ، وَلَا تَزُولُ الْمَعَرَّةُ، وَلَا يَسْقُطُ الْحَدُّ بِإِسْقَاطِ أَحَدِهِمْ؛ فَلِغَيْرِهِ الطَّلَبُ؛ لِأَنَّ الْمَعَرَّةَ لَمْ تَزُلْ عَنْهُ بِعَفْوِ صَاحِبِهِ.(وَ) إنْ قَذَفَهُمْ (بِكَلِمَاتٍ) بِأَنْ قَذَفَ (كُلَّ وَاحِدٍ بِكَلِمَةٍ)؛ أَيْ: جُمْلَةٍ (فـَ) عَلَيْهِ (لِكُلِّ وَاحِدٍ) مِنْهُمْ (حَدٌّ)؛ لِتَعَدُّدِ الْقَذْفِ وَتَعَدُّدِ مَحِلِّهِ، كَمَا لَوْ قَذَفَ كُلًّا مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْذِفَ الْآخَرَ. (وَمَنْ حُدَّ لِقَذْفٍ، ثُمَّ أَعَادَهُ)؛ أَيْ: الْقَذْفَ عُزِّرَ لِأَنَّهُ قَذْفٌ وَاحِدٌ حُدَّ لَهُ؛ فَلَا يُعَادُ كَمَا لَوْ أَعَادَهُ قَبْلَ الْحَدِّ أَوْ أَعَادَ مُلَاعِنٌ الْقَذْفَ (بَعْدَ لِعَانِهِ؛ عُزِّرَ، وَلَا) يُعَادُ (لِعَانٌ) لِأَنَّهُ قَذْفٌ وَاحِدٌ لَاعَنَ عَلَيْهِ مَرَّةً، كَمَا لَوْ أَعَادَهُ قَبْلَ اللِّعَانِ، (وَ) إنْ قَذَفَ (بِزِنًا آخَرَ) غَيْرَ الَّذِي حُدَّ لَهُ (حُدَّ مَعَ طُولِ الزَّمَنِ) لِأَنَّهُ غَيْرُ الْأَوَّلِ، وَحُرْمَةُ الْمَقْذُوفِ لَا تَسْقُطُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَاذِفِ أَبَدًا بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ قَذْفِهِ بِكُلِّ حَالٍ (وَإِلَّا) يَطُلْ الزَّمَنُ بَيْنَ الْحَدِّ الْأَوَّلِ وَالْقَذْفِ الثَّانِي (فَلَا) يُحَدُّ ثَانِيًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ حُدَّ مَرَّةً فَلَمْ يُحَدَّ لَهُ بِالْقَذْفِ (عَقِبَهُ) كَمَا لَوْ قَذَفَهُ بِالزِّنَا الْأَوَّلِ. تَجِبُ التَّوْبَةُ فَوْرًا مِنْ الْقَذْفِ وَالْغَيْبَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَلَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهَا مِنْ ذَلِكَ إعْلَامُ مَقْذُوفٍ أَوْ مُغْتَابٍ وَنَحْوِهِمَا. نَقَلَ مُهَنَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلِمَهُ؛ لِأَنَّ فِي إعْلَامِهِ دُخُولَ غَمٍّ عَلَيْهِ وَزِيَادَةَ إيذَاءٍ. وَقَالَ الْقَاضِي وَالشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ: يَحْرُمُ عَلَى الْقَاذِفِ وَنَحْوِهِ إعْلَامُ مَقْذُوفٍ وَمُغْتَابٍ وَنَحْوِهِ، وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: الصَّحِيحُ لَا يَجِبُ الِاعْتِرَافُ لِلْمَظْلُومِ، وَلَوْ سَأَلَهُ فَيُعَرِّضُ فِي إنْكَارِهِ حِذَارًا (مِنْ الْكَذِبِ- وَلَوْ مَعَ اسْتِحْلَافِهِ- لِأَنَّهُ مَظْلُومٌ؛ لِصِحَّةِ تَوْبَتِهِ فَيَنْفَعُهُ التَّأْوِيلُ وَمَعَ عَدَمِ التَّوْبَةِ وَإِلَّا لَكَانَ تَعْرِيضُهُ فِي الْإِنْكَارِ كَذِبٌ، وَيَمِينُهُ غَمُوسٌ، لِأَنَّهُ ظَالِمٌ) فَلَا يَنْفَعُهُ تَعْرِيضُهُ. وَقَالَ أَيْضًا: وَاخْتَارَ أَصْحَابُنَا لَا يُعْلِمُهُ، بَلْ يَدْعُو لَهُ فِي مُقَابَلَةِ مَظْلَمَتِهِ. وَقَالَ: وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَتَمْتُهُ أَوْ سَبَبْتُهُ فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ صَلَاةً وَزَكَاةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: «إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُمَّ إنِّي أَتَّخِذُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ آذَيْتُهُ أَوْ شَتَمْتُهُ أَوْ جَلَدْتُهُ أَوْ لَعَنْتُهُ فَاجْعَلْهَا لَهُ صَلَاةً». الْحَدِيثَ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَيْضًا: زِنَاهُ بِزَوْجَةِ غَيْرِهِ كَالْغِيبَةِ. وَذَكَرَ فِي الْغُنْيَةِ إنْ تَأَذَّى بِمَعْرِفَتِهِ كَزِنَاهُ بِجَارِيَتِهِ أَوْ أَهْلِهِ وَغِيبَتُهُ بِعَيْبٍ خَفِيٍّ يَعْظُمُ أَذَاهُ، فَهُنَا لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى أَنْ يَسْتَحِلَّهُ، وَيَبْقَى لَهُ عَلَيْهِ مَظْلِمَةٌ فَيَجْبُرُهَا بِالْحَسَنَاتِ كَمَا تُجْبَرُ مَظْلِمَةُ الْمَيِّتِ وَالْغَائِبِ، وَلَوْ أَعْلَمَهُ بِمَا فَعَلَ، وَلَمْ يُبَيِّنْهُ، فَحَلَّلَهُ فَهُوَ كَإِبْرَاءٍ مِنْ مَجْهُولٍ بِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْهِبَةِ..بَابُ حَدِّ الْمُسْكِرِ: السُّكْرُ اخْتِلَاطُ الْعَقْلِ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: السَّكْرَانُ خِلَافُ الصَّاحِي، وَالْجَمْعُ سَكْرَى وَسَكَارَى بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِهَا وَالْمَرْأَةُ سَكْرَى، وَلُغَةُ بَنِي أَسَدٍ سَكْرَانَةُ، وَالْمُسْكِرُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَسْكَرَ الشَّرَابُ إذَا جَعَلَ صَاحِبَهُ سَكْرَانَ، أَوْ كَانَ فِيهِ قُوَّةٌ تَفْعَلُ ذَلِكَ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ بِالْإِجْمَاعِ وَمَا نُقِلَ عَنْ قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ وَعَنْ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ وَأَبِي جَنْدَلِ بْنِ سَهْلِ أَنَّهَا حَلَالٌ فَمَرْجُوعٌ عَنْهُ، نَقَلَهُ الْمُوَفَّقُ وَالشَّارِحُ وَغَيْرُهُمَا، وَسَنَدُهُمَا قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ} الْآيَةَ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» وَفِي لَفْظِ «كُلُّ مُسْكَرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» رَوَاه مُسْلِمٌ (كُلُّ مُسْكِرٍ مَائِعٌ خَمْرٌ يَحْرُمُ شُرْبُ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ) لِحَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا قَالَ: ( «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ») رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ (مُطْلَقًا)؛ أَيْ: سَوَاءً كَانَ مِنْ الْعِنَبِ أَوْ مِنْ الشَّعِيرِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ. لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ، قَالَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ إنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ مِنْ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (وَلَوْ) شَرِبَ الْمُسْكِرَ (لِعَطَشٍ) لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ رَيٌّ بَلْ مَا فِيهِ مِنْ الْحَرَارَةِ يَزِيدُ الْعَطَشَ (بِخِلَافِ مَاءٍ نَجَسٍ) فَيَجُوزُ شُرْبُهُ لِعَطَشٍ عِنْدَ عَدَمِ غَيْرِهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْبَرْدِ وَالرُّطُوبَةِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لِدَوَاءٍ (إلَّا لِدَفْعِ لُقْمَةٍ غَصَّ بِهَا؛ وَلَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ)؛ أَيْ: الْمُسْكِرِ (وَخَافَ تَلَفًا) فَيَجُوزُ، لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ (وَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ)؛ أَيْ: الْخَمْرِ فِي دَفْعِ لُقْمَةٍ غَصَّ بِهَا (بَوْلٌ) لِوُجُوبِ الْحَدِّ بِاسْتِعْمَالِ الْمُسْكِرِ دُونَ الْبَوْلِ (أَوْ) يُقَدَّمُ (عَلَيْهِمَا)؛ أَيْ الْمُسْكِرِ وَالْبَوْلِ. (أَوْ) شُرْبُ (مَا خُلِطَ بِهِ)؛ أَيْ: الْمُسْكِرِ (وَلَمْ يُسْتَهْلَكْ) الْمُسْكِرُ (فِيهِ)؛ أَيْ: الْمَاءِ؛ (حُدَّ)؛ فَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ فِي الْمَاءِ فَلَا حَدَّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْلُبْ عَنْ الْمَاءِ اسْمَهُ (أَوْ أُسْقِطَ) بِمُسْكِرٍ (أَوْ احْتَقَنَ بِهِ، أَوْ أَكَلَ عَجِينًا لُتَّ بِهِ)؛ أَيْ: الْمُسْكِرِ، لَا إنْ خُبِزَ فَأَكَلَهُ (مُسْلِمٌ مُكَلَّفٌ) لَا صَغِيرٌ وَمَجْنُونٌ (عَالِمًا أَنَّ كَثِيرَهُ يُسْكِرُ وَيُصَدَّقُ إنْ قَالَ لَمْ أَعْلَمْ بِهِ) أَنَّ كَثِيرَهُ يُسْكِرُ (مُخْتَارًا) لِشُرْبِهِ. (فَإِنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ لَمْ يُحَدَّ لِحِلِّهِ)؛ أَيْ: الْمُسْكِرِ (لِمُكْرَهٍ) عَلَى شُرْبِهِ بِإِلْجَاءٍ أَوْ وَعِيدٍ مِنْ قَادِرٍ؛ لِحَدِيثِ ( «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»). (وَصَبْرُهُ) أَيْ: الْمُكْرَهِ عَنْ شُرْبِ مُسْكِرٍ (عَلَى الْأَذَى أَفْضَلُ) مِنْ شُرْبِهَا مُكْرَهًا نَصًّا، وَكَذَا كُلُّ مَا جَازَ لِمُكْرَهٍ ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ. (وَيَتَّجِهُ أَنَّهُ) لَا يَجُوزُ لِمَنْ أُكْرِهَ عَلَى فِعْلِ مُحَرَّمٍ تَرْكُهُ (إنْ أَدَّى الْإِكْرَاهُ إلَى قَتْلِهِ) بَلْ إذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْفِعْلُ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّخَلُّفُ اسْتِبْقَاءً لِنَفْسِهِ وَإِنْجَاءً لَهَا مِنْ التَّهْلُكَةِ (بِخِلَافِهِ)؛ أَيْ: الْإِكْرَاهِ عَلَى الدُّخُولِ (فِي الْكُفْرِ) فَإِنَّ صَبْرَهُ عَلَى الْأَذَى وَتَلَقِّيَ الْقَضَاءِ بِالرِّضَا أَفْضَلُ، وَلَوْ أَدَّى إلَى قَتْلِهِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ (أَوْ وُجِدَ) مُسْلِمٌ مُكَلَّفٌ (سَكْرَانُ أَوْ تُقَيَّأهَا بِهِ)؛ أَيْ: الْخَمْرَ مُسْلِمٌ مُكَلَّفٌ. (وَيَتَّجِهُ) الْقَوْلُ بِلُزُومِ هَذَا الْحُكْمِ (فِي) وُجُودِ سُكْرٍ أَوْ قَيْءٍ مِنْ شَخْصٍ (مُرْتَابٍ)؛ أَيْ: مُتَّهَمٍ (بِشُرْبِهَا)؛ أَيْ الْخَمْرِ، أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لِلرِّيبَةِ وَوُجِدَ عَلَى هَذَا الْحَالِ فَاَلَّذِي يَنْبَغِي الْإِغْضَاءُ عَنْهُ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ شَرِبَهَا جَاهِلًا أَنَّهَا خَمْرٌ أَوْ مُكْرَهًا عَلَى شُرْبِهَا، وَفِي كُلُّ شُبْهَةٍ يُدْرَأُ بِهَا الْحَدُّ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ (حُدَّ) لِأَنَّهُ لَمْ يَسْكَرْ أَوْ يَتَقَيَّأْهَا إلَّا وَقَدْ شَرِبَهَا (حُرٌّ) وُجِدَ مِنْهُ شَيْءٌ مِمَّا تَقَدَّمَ (ثَمَانِينَ) جَلْدَةً؛ لِمَا رَوَى الْجُوزَجَانِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ عُمَرَ اسْتَشَارَ النَّاسَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: اجْعَلْهُ كَأَخَفِّ الْحُدُودِ ثَمَانِينَ، فَضَرَبَ عُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكَتَبَ بِهِ إلَى خَالِدٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ بِالشَّامِ. وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمَشُورَةِ إنَّهُ إذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، فَحُدُّوهُ حَدَّ الْمُفْتَرِي. وَحَدُّ (قِنٍّ) فِيمَا تَقَدَّمَ (نِصْفُهَا)؛ أَيْ: أَرْبَعِينَ جَلْدَةً ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَلَوْ مُكَاتَبًا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ (وَلَوْ ادَّعَى) شَارِبٌ وَنَحْوُهُ حُرًّا كَانَ أَوْ قِنًّا (جَهْلَ وُجُوبِ الْحَدِّ) حَيْثُ عَلِمَ التَّحْرِيمَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الزِّنَا. (وَيُعَزَّرُ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ رَائِحَتُهَا)؛ أَيْ: الْخَمْرِ، وَلَا يُحَدُّ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ تَمَضْمَضَ بِهَا، أَوْ ظَنَّهَا مَاءً، فَلَمَّا صَارَتْ فِي فِيهِ مَجَّهَا وَنَحْوَهُ (أَوْ) أَيْ: وَيُعَزَّرُ مَنْ (حَضَرَ شُرْبَهَا) لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا ( «لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ») رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. (وَيَتَّجِهُ وَكَذَا كُلُّ مَنْ حَضَرَ) وَهُوَ مُكَلَّفٌ مُخْتَارٌ (مَجْلِسًا مُحَرَّمًا) كَمَجْلِسٍ لِاسْتِمَاعِ آلَةِ لَهْوٍ أَوْ لَعِبٍ بِشِطْرَنْجٍ أَوْ نَرْدٍ وَنَحْوِهِ؛ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ؛ لِإِقْرَارِهِ عَلَى فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ. وَلَا حَدَّ عَلَى شَارِبِ خَمْرٍ جَهِلَ تَحْرِيمَهَا؛ لِقَوْلِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ لَا حَدَّ إلَّا عَلَى مَنْ عَلِمَ التَّحْرِيمَ. وَلِأَنَّهُ يُشْبِهُ مَنْ شَرِبَهَا غَيْرَ عَالِمٍ أَنَّهَا خَمْرٌ (وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى الْجَهْلِ) بِالتَّحْرِيمِ (مِمَّنْ نَشَأَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ) لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يَخْفَى، بِخِلَافِ حَدِيثِ عَهْدٍ بِإِسْلَامٍ وَنَاشِئٍ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ الْإِسْلَامِ؛ فَيُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ صِدْقِهِ. (وَلَا حَدَّ عَلَى كَافِرٍ) وَلَوْ ذِمِّيًّا (لِشُرْبِ) خَمْرٍ لِاعْتِقَادِهِ حِلَّهُ كَنِكَاحِ مَجُوسِيٍّ ذَاتَ مَحْرَمٍ. (وَيَثْبُتُ) شُرْبُ مُسْكِرٍ (بِإِقْرَارٍ بِهِ مَرَّةً كَقَذْفٍ) لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَا يَتَضَمَّنُ إتْلَافًا، بِخِلَافِ زِنًا وَسَرِقَةٍ (وَ) كَذَا حَدُّ (قَوَدٍ) فَيَثْبُتُ بِإِقْرَارٍ بِهِ مَرَّةً؛ لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ (أَوْ شَهَادَةِ عَدْلَيْنِ) عَلَى الشُّرْبِ أَوْ الْإِقْرَارِ بِهِ (وَلَوْ لَمْ يَقُولَا) شَرِبَ (مُخْتَارًا عَالِمًا تَحْرِيمَهُ) لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَتَقَدَّمَ يُقْبَلُ رُجُوعُ مُقِرٌّ بِهِ؛ فَلَا يُحَدُّ. (وَيَحْرُمُ وَيَنْجَسُ عَصِيرُ) عِنَبٍ أَوْ قَصَبٍ أَوْ رُمَّانٍ (غَلَى) كَغَلَيَانِ الْقِدْرِ؛ بِأَنْ قَذَفَ بِزَبَدِهِ نُصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ لَمْ يَسْكَرْ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ الشِّدَّةُ الْحَادِثَةُ فِيهِ، وَهِيَ تُوجَدُ بِوُجُودِ الْغَلَيَانِ، فَإِذَا غَلَى حَرُمَ. لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ ( «عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصُومُ فَتَحَيَّنْتُ فِطْرَهُ بِنَبِيذٍ صَنَعْتُهُ فِي دُبَّاءَ ثُمَّ أَتَيْتُهُ بِهِ، فَإِذَا هُوَ يَنِشُّ، فَقَالَ: اضْرِبْ بِهَذَا الْحَائِطَ، فَإِنَّ هَذَا شُرْبُ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ») رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ (أَوْ)؛ أَيْ: وَيَحْرُمُ عَصِيرٌ (أَتَى عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهِنَّ) وَإِنْ لَمْ يُغْلَ نَصًّا؛ لِمَا رُوِيَ: ( «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَشْرَبُهُ إلَى مَسَاءِ ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ يَأْمُرُ بِهِ فَيُسْقَى الْخَدَمَ، أَوْ يُهْرَاقُ») رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَرَوَى الشَّالَنْجِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ ( «اشْرَبُوا الْعَصِيرَ ثَلَاثَةً مَا لَمْ يَغْلِ») وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي الْعَصِيرِ: أَشْرَبُهُ مَا لَمْ يَأْخُذْهُ شَيْطَانُهُ. قِيلَ وَفِي كَمْ يَأْخُذُهُ شَيْطَانُهُ؟ قَالَ فِي ثَلَاثَةٍ. حَكَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَلِأَنَّ الشِّدَّةَ تَحْصُلُ فِي ثَلَاثٍ غَالِبًا، وَهِيَ خَفِيَّةٌ تَحْتَاجُ إلَى ضَابِطٍ، وَالثَّلَاثُ تَصْلُحُ لِذَلِكَ؛ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهَا بِهَا. (وَإِنْ طُبِخَ) الْعَصِيرُ (قَبْلَ تَحْرِيمِهِ)؛ أَيْ: قَبْلَ غَلَيَانِهِ وَقَبْلَ إتْيَانِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهِنَّ عَلَيْهِ (حَلَّ إنْ ذَهَبَ) بِطَبْخِهِ (ثُلُثَاهُ) فَأَكْثَرُ نَصًّا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ أَبَا مُوسَى كَانَ يَشْرَبُ مِنْ الطِّلَاءِ مَا بَقِيَ ثُلُثُهُ وَذَهَبَ ثُلُثَاهُ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَلَهُ مِثْلُهُ عَنْ عُمَرَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَلِأَنَّ الْعَصِيرَ إنَّمَا يَغْلِي لِمَا فِيهِ مِنْ الرُّطُوبَةِ، فَإِذَا غَلَى عَلَى النَّارِ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ فَقَدْ ذَهَبَ أَكْثَرُ رُطُوبَتِهِ، فَلَا يَكَادُ يَغْلِي، وَإِذَا لَمْ يَغْلِ لَمْ تَحْصُلْ فِيهِ الشِّدَّةُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالرُّبَّى، وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ حِينَ قَالَ لَهُ أَبُو دَاوُد أَنَّهُ يُسْكِرُ، فَقَالَ: لَوْ كَانَ يُسْكِرُ مَا أَحَلَّهُ عُمَرُ. (وَلَا) يَحِلُّ عَصِيرٌ طُبِخَ فَذَهَبَ بِطَبْخِهِ (أَقَلُّ) مِنْ ثُلُثَيْهِ (خِلَافًا لِلْمُوَفَّقِ) وَالشَّارِحِ فَإِنَّهُمَا اعْتَبَرَا فِي حِلِّهِ عَدَمَ إسْكَارِهِ؛ سَوَاءٌ ذَهَبَ بِطَبْخِهِ ثُلُثَاهُ أَوْ أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ تَنْبِيهٌ النَّبِيذُ مُبَاحٌ مَا لَمْ يَغْلِ أَوْ تَأْتِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا، وَهُوَ مَاءٌ يُلْقَى فِيهِ تَمْرٌ أَوْ زَبِيبٌ أَوْ عُنَّابٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ لِيُحَلُّوا بِهِ الْمَاءَ، وَتَذْهَبَ مُلُوحَتُهُ. رَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّهُ كَانَ يَنْقَعُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّبِيبَ فَيَشْرَبُهُ الْيَوْمَ وَالْغَدَ وَبَعْدَ الْغَدِ إلَى مَسَاءِ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ، ثُمَّ يُؤْمَرُ بِهِ فَيُسْقَى ذَلِكَ الْخَدَمَ أَوْ يُهْرَاقُ». وَقَوْلُهُ إلَى مَسَاءِ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ يَكُونُ قَبْلَ تَمَامِ الثَّلَاثِ بِقَلِيلٍ، فَيُسْقَى ذَلِكَ الْخَدَمُ إنْ شَاءَ أَوْ يَشْرَبُهُ أَوْ يُهْرَاقُ قَبْلَ أَنْ تَتِمَّ عَلَيْهِ الثَّلَاثُ لِيُنْبَذَ غَيْرُهُ فِي وِعَائِهِ، فَإِنْ طُبِخَ قَبْلَ غَلَيَانِهِ حَتَّى صَارَ غَيْرَ مُسْكِرٍ كَرِبَ الْخَرُّوبِ وَغَيْرِهِ فَلَا بَأْسَ إذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهِنَّ، وَذَهَبَ ثُلُثَاهُ بِالطَّبْخِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْعَصِيرِ. (وَوَضْعُ زَبِيبٍ فِي خَرْدَلٍ كَعَصِيرٍ؛ فَيَحْرُمُ إنْ غَلَى وَنَحْوُهُ) كَأَنْ يَأْتِيَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهِنَّ (وَإِنْ صُبَّ عَلَيْهِ)؛ أَيْ: عَلَى زَبِيبٍ فِي خَرْدَلٍ (خَلٌّ قَبْلَ ذَلِكَ)، أَيْ قَبْلَ أَنْ يَغْلِيَ، أَوْ يَأْتِيَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهِنَّ (أُكِلَ) وَلَوْ بَعْدَ ثَلَاثٍ؛ لِأَنَّ الْخَلَّ يَمْنَعُ غَلَيَانَهُ. (وَيُكْرَهُ الْخَلِيطَانِ كَنَبِيذِ تَمْرٍ مَعَ زَبِيبٍ) أَوْ بُسْرٍ مَعَ تَمْرٍ أَوْ رُطَبٍ (وَكَذَا) نَبِيذُ (مُذْنِبٍ)؛ أَيْ: مَا نِصْفُهُ بُسْرٌ وَنِصْفُهُ رُطَبٌ (وَحْدَهُ) لِأَنَّهُ كَنَبِيذِ بُسْرٍ مَعَ رُطَبٍ (لِمَا رَوَى جَابِرٌ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُنْبَذَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ جَمِيعًا») رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ ( «نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَخْلِطَ بُسْرًا بِتَمْرٍ، وَزَبِيبًا بِتَمْرٍ، أَوْ زَبِيبًا بِبُسْرٍ، وَقَالَ: مَنْ شَرِبَهُ مِنْكُمْ فَلْيَشْرَبْهُ زَبِيبًا فَرْدًا أَوْ تَمْرًا فَرْدًا أَوْ بُسْرًا فَرْدًا») رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ.قَالَ أَحْمَدُ فِي الرَّجُلِ يَنْقَعُ الزَّبِيبَ وَالتَّمْرَ الْهِنْدِيَّ وَالْعُنَّابَ وَنَحْوَهُ يَنْقَعُهُ غُدْوَةً وَيَشْرَبُهُ عَشِيَّةً لِلدَّوَاءِ: أَكْرَهُهُ؛ لِأَنَّهُ يُنْبَذُ، وَلَكِنْ يَطْبُخُهُ وَيَشْرَبُ عَلَى الْمَكَانِ.وَ(لَا) يُكْرَهُ (وَضْعُ تَمْرٍ وَحْدَهُ أَوْ) وَضْعُ (زَبِيبٍ أَوْ) وَضْعُ (مِشْمِشٍ أَوْ) وَضْعُ (عُنَّابٍ فِي مَاءٍ لِتَحْلِيَتِهِ)؛ أَيْ: الْمَاءِ مَا لَمْ (يَشْتَدَّ)؛ أَيْ: يَغْلِ (أَوْ تَتِمَّ لَهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ) بِلَيَالِيِهَا؛ فَيَحْرُمُ؛ لِمَا سَبَقَ. فَائِدَةٌ لَا يُكْرَهُ فُقَّاعٌ حَيْثُ لَمْ يَشْتَدَّ وَلَمْ يَغْلِ؛ لِأَنَّهُ نَبِيذٌ يُتَّخَذُ لِهَضْمِ الطَّعَامِ وَصَدْقِ الشَّهْوَةِ لَا لِلْإِسْكَارِ، وَمِثْلُهُ الْأَقْسَمَا إذَا كَانَ مِنْ زَبِيبٍ وَحْدَهُ، مَا لَمْ يَغْلِ أَوْ تَأْتِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا، وَالْفُقَّاعُ شَرَابٌ يُتَّخَذُ مِنْ الشَّعِيرِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِمَا يَعْلُوهُ مِنْ الزَّبَدِ. (وَلَا) يُكْرَهُ (انْتِبَاذٌ فِي دُبَّاءَ) بِضَمِّ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ (وَهِيَ الْقَرْعُ وَ) لَا فِي (حَنْتَمٍ)؛ أَيْ: إنَاءٍ أَخْضَرَ وَلَا فِي نَقِيرٍ (وَهُوَ مَا حُفِرَ مِنْ خَشَبٍ) كَقَصْعَةٍ وَقَدَحٍ (وَ) لَا فِي (مُزَفَّتٍ)؛ أَيْ: مُلَطَّخٍ بِالزِّفْتِ؛ (لِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ مَرْفُوعًا «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ الْأَشْرِبَةِ إلَّا فِي ظُرُوفِ الْأُدْمِ؛ فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ غَيْرَ أَنْ لَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا») رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا. (وَإِنْ غَلَا عِنَبٌ وَهُوَ عِنَبٌ) بِلَا عَصْرٍ (فَلَا بَأْسَ) بِهِ، وَمِثْلُهُ بِطِّيخٌ وَنَحْوُهُ، وَإِنْ اسْتَحَالَ خَمْرًا حَرُمَ وَتَنَجَّسَ.(وَيَتَّجِهُ حِلُّ شُرْبِ الدُّخَانِ وَالْأَوْلَى لِكُلِّ ذِي مُرُوءَةٍ تَرْكُهُمَا)؛ أَيْ: الْقَهْوَةِ وَالدُّخَانِ، لِمَا فِيهِمَا مِنْ الِاشْتِغَالِ عَنْ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَعَنْ تَحْصِيلِ الْكِمَالَاتِ؛ إذْ مَنْ اعْتَادَهُمَا قَدْ يَعْجِزُ عَنْ تَحْصِيلِهِمَا فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ، أَوْ يَكُونُ مَجْلِسٌ لَا يَنْفِي اسْتِعْمَالَهُمَا فِيهِ أَوْ يَسْتَحِي مِمَّنْ حَضَرَ فَيَتَشَوَّشُ خَاطِرُهُ لِفَقْدِهِمَا وَقَدْ يَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ؛ فَيَفُوتُهُ بَعْضُ مُطَالَبِهِ اللَّازِمَةِ لَهُ، خُصُوصًا الدُّخَانَ، فَقَدْ كَثُرَ فِيهِ الْقِيلُ وَالْقَالُ، وَأُلِّفَ فِيهِ الرَّسَائِلُ الْقِصَارُ وَالطِّوَالُ، فَتَشَتَّتَ فِيهِ فِكْرُ الْأَنَامِ وَتَحَيَّرَ فِي شَأْنِهِ الْخَوَاصُّ وَالْعَوَامُّ، وَمَا النَّاسُ يَخُوضُونَ فِي شُرْبِهِ بِالْكَلَامِ إلَى أَنْ صَارُوا فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ، قِسْمٍ سَاكِتُونَ عَنْ الْبَحْثِ عَنْهُ، وَقِسْمٍ قَائِلُونَ بِإِبَاحَتِهِ كَالْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ، وَقِسْمٍ قَائِلُونَ بِكَرَاهَتِهِ، وَقِسْمٍ آخَرَ مُتَعَصِّبُونَ لِحُرْمَتِهِ مِمَّنْ يَنْتَسِبُونَ إلَى الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ، وَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُمْ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا كُلُّ عَالِمٍ مُحَقِّقٌ لَهُ اطِّلَاعٌ عَلَى أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ إذَا خَلَا مِنْ الْمَيْلِ مَعَ الْهَوَى النَّفْسَانِيِّ سُئِلَ الْآنَ عَنْ شُرْبِهِ بَعْدَ اشْتِهَارِهِ وَمَعْرِفَةِ النَّاسِ بِهِ، وَبُطْلَانِ دَعْوَى الْمُدَلِّسِينَ فِيهِ بِإِضْرَارِهِ لِلْعَقْلِ وَالْبَدَنِ لَا يُجِيبُ إلَّا بِإِبَاحَتِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا ضَرَرَ فِيهَا وَلَا نَصَّ تَحْرِيمٍ الْحِلُّ وَالْإِبَاحَةُ حَتَّى يَرِدَ الشَّرْعُ بِالتَّحْرِيمِ لَا الْحَظْرِ. وَاتَّفَقَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّ تَحَكُّمَ الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ بِلَا مُسْتَنَدٍ شَرْعِيٍّ بَاطِلٌ؛ إذْ لَيْسَ الصَّلَاحُ بِتَحْرِيمِهِ وَالتَّحَكُّمِ فِي أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ بِالْآرَاءِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْقِيَاسَاتِ الْوَهْمِيَّةِ، وَإِنَّمَا الصَّلَاحُ وَالدِّينُ الْمُحَافَظَةُ بِالِاتِّبَاعِ لِلْأَحْكَامِ الْوَارِدَةِ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ فَرَائِضَ وَمُسْتَحَبَّاتٍ وَمُحَرَّمَاتٍ وَمَكْرُوهَاتٍ وَمُبَاحَاتٍ بِلَا تَفْسِيرٍ وَلَا تَبْدِيلٍ فِي سَائِرِ الْحَالَاتِ، وَهَلْ الطَّعْنُ فِي أَكْثَرِ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَالْحُكْمُ عَلَيْهِمْ بِالْفِسْقِ وَالطُّغْيَانِ صَلَاحٌ أَمْ فَسَادٌ بَيْنَ الْإِخْوَانِ، وَالْعَامَّةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَضْلًا عَنْ الْخَاصَّةِ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ. وَقَدْ وَثَّقَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وقَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}؛ أَيْ: عُدُولًا، فَإِنْ قِيلَ مَتَى حَدَثَ شُرْبُ هَذَا الدُّخَانَ؟ أُجِيبُ أَنَّهُ حَدَثَ فِي حُدُودِ الْأَلْفِ، وَكَانَ حُدُوثُهُ أَوَّلًا فِي بِلَادِ الْإِنْكِلِيزِ، وَأَتَى بِهِ رَجُلٌ مِنْ الْحُكَمَاءِ إلَى أَرْضِ الْمَغْرِبِ، وَعَرَضَهُ عَلَى النَّاسِ، وَذَكَرَ لَهُمْ مَنَافِعَهُ، فَلَمَّا انْتَشَرَ، حَرَّمَهُ بَعْضٌ، وَكَرِهَهُ بَعْضٌ، وَأَبَاحَهُ بَعْضٌ، وَسَكَتَ عَنْهُ بَعْضٌ، وَكُلُّ أَهْلِ مَذْهَبٍ مِنْ الْأَرْبَعَةِ فِيهِمْ مَنْ حَرَّمَهُ، وَفِيهِمْ مَنْ كَرِهَهُ، وَفِيهِمْ مَنْ أَبَاحَهُ، وَلَكِنَّ غَالِبَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ قَالُوا إنَّهُ مُبَاحٌ أَوْ مَكْرُوهٌ، وَبَعْضُهُمْ مَنْ حَرَّمَهُ، وَغَالِبُ الْمَالِكِيَّةِ حَرَّمَهُ، وَبَعْضٌ مِنْهُمْ كَرِهَهُ، وَكَذَا أَصْحَابُنَا سِيَّمَا النَّجْدِيُّونَ إلَّا أَنِّي لَمْ أَرَ مِنْ الْأَصْحَابِ مَنْ صَرَّحَ فِي تَأْلِيفِهِ بِالْحُرْمَةِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هُنَا وَفِي رِسَالَةٍ أَلَّفَهَا فِيهِ: الْإِبَاحَةُ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ مَنْصُورٍ فِي آدَابِ النِّسَاءِ الْكَرَاهَةُ. وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ مَنْ يُسْكِرُهُ وَمَنْ لَا يُسْكِرُهُ، وَهُوَ الصَّوَابُ إذْ الْإِنْسَانُ لَوْ تَنَاوَلَ مُبَاحًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ فَسَكِرَ مِنْهُ، حُرِّمَ عَلَيْهِ تَنَاوُلُهُ؛ لِأَنَّهُ يَضُرُّهُ فِي عَقْلِهِ وَدِينِهِ، وَأَمَّا أَنَا فَلَا أَشُكُّ فِي كَرَاهَتِهِ؛ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ النَّقْصِ فِي الْمَالِ، وَلِكَرَاهَةِ رَائِحَةِ فَمِ شَارِبِهِ كَأَكْلِ الْبَصَلِ النِّيءِ وَالثُّومِ وَالْكُرَّاثِ وَنَحْوِهَا، وَلِإِخْلَالِهِ بِالْمُرُوءَةِ بِالنِّسْبَةِ لِأَهْلِ الْفَضَائِلِ وَالْكَمَالَاتِ، وَكَانَ أَحْمَدُ لَا يَعْدِلُ بِالسَّلَامَةِ شَيْئًا. وَأَمَّا التَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ فَلَمْ أَقْطَعْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِقِصَرِ بَاعِي وَقِلَّةِ اطِّلَاعِي، وَلِعَدَمِ الدَّلِيلِ الصَّرِيحِ.قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: إذَا شَكَكْنَا فِي الْمَطْعُومِ أَوْ الْمَشْرُوبِ هَلْ يُسْكِرُ أَمْ لَا؟ لَمْ يَحْرُمْ بِمُجَرَّدِ الشَّكِّ، وَلَمْ يُقَمْ الْحَدُّ عَلَى صَاحِبِهِ. وَقَالَ أَيْضًا: وَأَمَّا اخْتِصَاصُ الْخَمْرِ بِالْحَدِّ؛ فَإِنَّ فِي النُّفُوسِ بَاعِثًا رَادِئًا إلَى الْخَمْرِ، فَنُصِبَ لِذَلِكَ رَادِعٌ شَرْعِيٌّ، وَزَاجِرٌ دُنْيَوِيٌّ أَيْضًا؛ لِيَتَقَابَلَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ غَيْرُهَا، انْتَهَى.هَذَا مَا ظَهَرَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.تَتِمَّةٌ:يَحْرُمُ التَّشَبُّهُ بِشُرَّابِ الْخَمْرِ، وَيُعَزَّرُ فَاعِلُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْرُوبُ مُبَاحًا فِي نَفْسِهِ، فَلَوْ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ، وَرَتَّبُوا مَجْلِسًا، وَأَحْضَرُوا آلَاتِ الشَّرَابِ وَأَقْدَاحَهُ، وَصَبُّوا فِيهَا السَّكَنْجَبِينَ وَنَحْوَهُ، وَنَصَّبُوا سَاقِيًّا يَدُورُ عَلَيْهِمْ وَيَسْقِيهِمْ، فَيَأْخُذُونَ مِنْ السَّاقِي وَيَشْرَبُونَ، وَيُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِكَلِمَاتِهِمْ الْمُعْتَادَةِ بَيْنَهُمْ؛ حَرُمَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْمَشْرُوبُ مُبَاحًا فِي نَفْسِهِ- لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَشْبِيهًا بِأَهْلِ الْفَسَادِ. قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ وَهَذَا مُنْشَأُ مَا وَقَعَ فِي الْقَهْوَةِ حَيْثُ اسْتَنَدَ إلَيْهِ مَنْ أَفْتَى بِتَحْرِيمِهَا، وَغَيْرُ خَافٍ أَنَّ الْمُحَرَّمَ التَّشَبُّهُ لَا ذَاتُهَا، حَيْثُ لَا دَلِيلَ يَخُصُّ؛ لِعَدَمِ إسْكَارِهَا كَمَا هُوَ مَحْسُوسٌ، وَهَذَا يَشْهَدُهُ الْوِجْدَانُ الصَّادِقُ بَعْدَ التَّأَمُّلِ الْفَائِقِ.
|